ملخص المقال
سنتعرف في السطور التالية على الكيفية التي تتحوّل بها الفتاوى المتطرفة إلى جرائم فعلية تُرتكب باسم الدين، من خلال تحليل متسلسل يبدأ بالتأصيل الشرعي للعنف، ويمرّ بأدوار المحرّضين وطرق تجنيد المنفّذين، وصولًا إلى آليات التبرير القانوني والديني التي تُسهم في إفلات الجناة من العقاب. كما نستعرض في النهاية السبل المقترحة لتفكيك هذه المنظومة الفكرية قبل أن تترجم إلى رصاص على الأرض.

صناعة الفتوى: من التأصيل الشرعي إلى التحريض

في صلب كثير من الجرائم التي ترتكب باسم الدين، نجد فتوى تمثل نقطة البداية. الفتوى لا تكون دائمًا أداة توجيه أو توضيح فقهي، بل قد تتحول إلى سلاح يُستخدم لإضفاء “شرعية” على سلوكيات عنيفة، بمجرد أن تُحمَّل بتأويلات متطرفة وتُقدَّم كواجب ديني لا يجوز التخلي عنه. في هذه السياقات، لا تُطرح الأسئلة حول مقاصد الشريعة أو شروط تطبيق الأحكام، بل يُنتقى من التراث ما يوافق الغرض السياسي أو الأيديولوجي للجهة المصدرة للفتوى.

يلعب بعض “العلماء” أو الدعاة المتطرفين دورًا محوريًا في هذا السياق، إذ يتقمصون دور المرجع الشرعي بينما هم في الواقع جزء من ماكينة تعبئة وتحريض. يُعيدون قراءة النصوص بطريقة تبريرية، تُحوّل المختلف فكريًا أو الديني إلى “عدو لله” تجب محاربته. فتاوى مثل “قتال المرتدين”، أو “إقامة الحد على المارقين”، أو “الولاء والبراء”، تُستخدم كأسلحة لغسل العقول وتحفيز الأتباع على اتخاذ خطوات عنيفة دون تردد.

ما يجعل هذه الفتاوى خطيرة ليس فقط مضمونها، بل كذلك السياق الذي تُطلق فيه، حيث تكون موجهة إلى جمهور مشحون سلفًا بمشاعر الكراهية والضياع، يبحث عن معنى أو انتماء. حينها، تصبح الفتوى بمثابة أمر عمليات، وليست مجرد رأي فقهي، تهيئ الأرضية النفسية والشرعية للجريمة القادمة.

الإعلام المتطرف: تضخيم الرواية وتغذية الغضب

بعد صدور الفتوى، لا يكفي أن تُترك لتتداول في الكتب أو المحاضرات المعزولة؛ بل تُحقن في الشارع عبر أدوات أكثر تأثيرًا وانتشارًا: الإعلام. تلعب القنوات الدينية المتشددة، ومنصات التواصل الاجتماعي التابعة للجماعات المتطرفة، دورًا مركزيًا في تضخيم الروايات الطائفية وبث الكراهية تجاه الأقليات أو الخصوم السياسيين والفكريين. في هذا النوع من الإعلام، تُنتج الكراهية كمحتوى يومي: خطب نارية، مقاطع فيديو ملتهبة، صور ومصطلحات مشحونة تستدعي الذاكرة الدموية للصراعات التاريخية، وتُقدَّم على أنها صراع أبدي بين “الحق والباطل”.

هذه المنصات لا تكتفي بعرض الفتوى، بل تُعيد تدويرها وتضخيمها وتقديمها كحقيقة مطلقة لا تقبل النقاش. تُدمج الفتاوى في سياق عاطفي يغذّي مشاعر الضحية والانتقام، وتُربط بمجازر حقيقية أو متخيلة لتعزيز الشعور بالخطر الوجودي. وهنا يصبح الإعلام ليس فقط أداة لنشر الكراهية، بل معملاً لصياغة الهوية، حيث يتشكل “العدو” بملامح واضحة، ويُمنح المتلقي دورًا محوريًا في مواجهته.

الخطر الأكبر يكمن في أن هذا النوع من الإعلام لا يقدّم خطابًا دينيًا مجردًا، بل يُلبس الكراهية عباءة الإيمان، فيغدو القتل فعلاً محمودًا، والعنف وسيلة مشروعة لـ”نصرة الدين”. ومع ضعف الخطاب المعتدل وغياب الرقابة، يصبح هذا الإعلام بيئة خصبة لتجنيد العقول وتوجيهها نحو تنفيذ الجريمة.

من التنظير إلى التنفيذ: الأتباع كأدوات تنفيذ

في اللحظة التي تكتمل فيها حلقة التحريض – بفتوى شرعية وإعلام تعبوي – يظهر العنصر الثالث: الأتباع. هؤلاء ليسوا بالضرورة مجرمين بالفطرة، بل أفراد عاديون، قد يكونون شبابًا يشعرون بالتهميش أو يبحثون عن معنى لحياتهم. لكن في ظل خطاب ديني متطرف، يتحولون إلى أدوات طيّعة تنفّذ ما يُصوَّر لها أنه “واجب شرعي” و”جهاد في سبيل الله”.

ما يُسهّل انزلاقهم إلى دائرة العنف هو التلقين العقائدي المصاحب للعزلة النفسية والاجتماعية. يصبح الانتماء للجماعة المتطرفة بديلاً عن العائلة والمجتمع، ويُربَط بالخلاص الأخروي والانتصار التاريخي. لا يُنظر إلى الأفعال العنيفة كجرائم، بل كقربات تُقرّبهم من الجنة. يُبرَّر كل شيء: القتل، التفجير، الخطف، تحت راية “إعلاء كلمة الله” أو “حماية العقيدة من أعدائها”.

في هذه المرحلة، لا يعود الشخص يفكر كفرد، بل كأداة ضمن منظومة. يتلقى التعليمات، يقتنع بأنها حق، ثم يمضي للتنفيذ بقناعة تامة. وقد تكون الفتوى التي صدرت قبل أشهر، أو المادة الإعلامية التي شاهدها مرارًا، هي الزناد الذهني الذي يحوّله من متابع إلى جندي.

الهروب من المحاسبة: غطاء الدين وتوظيف القانون

حين تُرتكب الجريمة، يُفترض أن تكون هناك محاسبة. لكن في حالات العنف المستند إلى خطاب ديني، غالبًا ما يُفلت الجناة من العقاب، لا بسبب ضعف القانون فحسب، بل لأن الجريمة ذاتها تكون مغلّفة بغطاء “ديني” يجعل التشكيك فيها ضربًا من التجديف أو العداء للعقيدة. يُقدَّم القاتل على أنه “مجاهد”، ويُصوَّر الضحية كـ”كافر” أو “مرتد” لا يستحق التعاطف. هنا، يتحول النقاش الأخلاقي إلى فخ ديني، وتُخنق العدالة في مهدها.

في بعض الحالات، تكون البيئة القانونية نفسها متواطئة أو عاجزة. فإما أن تُمارس السلطات تساهلاً مريبًا مع دعاة التحريض بحجة حرية التعبير أو الحساسيات الدينية، أو أن تُخضع القوانين لتفسيرات دينية تجعل من الممكن تبرير الجريمة، بل وحتى التغاضي عنها رسميًا.

في بلدان النزاع، مثل سوريا أو العراق، غالبًا ما تضع الجماعات المتطرفة نفسها موضع الدولة، وتفرض قوانينها و”قضاتها” و”حدودها” الخاصة. أما في الدول المستقرة، فقد يجد بعض المتطرفين في هوامش الحرية القانونية فرصة لنشر خطابهم دون عواقب. فتكون النتيجة: جريمة ترتكب باسم الدين، ومرتكبها يحتمي خلف ستار شرعي أو قانوني يعجز المجتمع عن اختراقه.

نحو المعالجة: تفكيك المنظومة قبل وقوع الجريمة

لمواجهة هذه السلسلة المعقّدة التي تبدأ بفتوى وتنتهي برصاصة، لا يكفي التركيز على النتائج؛ بل يجب تفكيك المنظومة منذ لحظة التشكل الأولى. الفتوى التي تحرّض على القتل لا تُولد في الفراغ، بل تُبنى على بيئة فكرية تسمح بوجودها وانتشارها، وعلى مؤسسات أو شخصيات تتعامل معها على أنها جزء من “التراث” أو “الاجتهاد الشرعي”. لذا، تبدأ المعالجة من الجرأة على مراجعة هذه البنى، وكشف من يقف خلفها، وتفكيك الخطاب الديني الذي يجعل من العنف مشروعًا مقدسًا.

ويأتي دور الإعلام والتعليم كجبهتين أساسيتين في المواجهة. إعلام لا يساوي بين خطاب الكراهية وحرية التعبير، وتعليم يعيد تعريف المفاهيم الدينية ضمن إطار إنساني، يحصّن العقول ضد التلقين الأعمى. كما أن مسؤولية المجتمعات الدينية المعتدلة لا تقل أهمية؛ إذ عليها أن تُعيد احتكار الشرعية الدينية، وتُقصي الأصوات التي توظف الدين للتبرير والتحريض.

المعالجة تبدأ قبل الجريمة، حين يُرصد الخطاب المحرّض ويُواجه، لا بعد أن يسقط الضحايا. فكل تأخير في تفكيك هذه المنظومة يعني فتوى جديدة، وتعبئة أخرى، وضحية قادمة.

مصادر:

 

معهد دراسة الحرب – جبهة النصرة في سوريا
تحليل شامل لدور جبهة النصرة (المرتبطة بالقاعدة) في سوريا، وتنافسها مع داعش، مع التركيز على الأيديولوجيا الدينية والتكتيكات العسكرية.

وزارة الخارجية الأمريكية – تقرير الحرية الدينية الدولية: سوريا 2023
يقدم هذا التقرير نظرة مفصلة على الحريات الدينية في سوريا، مع التركيز على تأثير الجماعات المتطرفة مثل داعش على الأقليات الدينية.

مجلة نيويوركر – بقايا داعش الخطرة
مقالة تستعرض الوضع في سوريا بعد انهيار داعش، مع التركيز على التحديات الأمنية والإنسانية المرتبطة بأعضاء التنظيم المحتجزين.

مجلة دابق – مجلة دعائية لتنظيم داعش
تحليل لمجلة دابق التي أصدرها تنظيم داعش، والتي استخدمت لتبرير العنف والتجنيد، مع التركيز على الرسائل الأيديولوجية الموجهة للمسلمين في سوريا وخارجها.

Index