يتناول هذا المقال تأثير الخطاب الديني المتطرف في تحريض الكراهية ضد الأقليات الدينية، مثل العلويين والمسيحيين، من خلال تفسيرات حرفية للأيديولوجيا الدينية. يُستعرض دور الإعلام الديني في نشر هذا الخطاب وتحفيز العنف، إلى جانب البُعد السياسي الذي يجعل من استهداف الأقليات أداة للهيمنة وتفكيك المجتمعات. كما يناقش الآثار الإنسانية والاجتماعية لهذه السياسات على المجتمعات المستهدفة، ويختتم بتوصيات لمواجهة هذا التهديد عبر تفعيل الحوار الديني المعتدل وتطوير آليات الرقابة الإعلامية والتعليمية
حين تتحول العقيدة إلى سلاح: كيف يُستخدم الخطاب الديني لتبرير العنف ضد الأقليات؟
في خضم الفوضى التي أحدثتها النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط، برز الخطاب الديني كأداة مركزية في تأجيج الكراهية واستقطاب الأتباع نحو العنف، لا سيما ضد الأقليات الدينية. في بلدان مثل سوريا والعراق، لم تكن المواجهات مجرد صراعات على السلطة أو الأرض، بل تحولت إلى حروب ذات طابع طائفي عميق، تقودها جماعات جهادية تتبنّى أيديولوجيات متطرفة تعتبر كل من يخالفها في العقيدة “عدوًا لله” يستحق القتل أو التهجير.
لكن لماذا تتجه هذه الجماعات تحديدًا لاستهداف الأقليات؟ ما الذي يجعل العلويين والمسيحيين والدروز والإيزيديين أهدافًا مفضلة لحملات التطهير العقائدي؟ وهل هذا العنف نابع من صراعات سياسية أم من روافد أيديولوجية دينية متجذرة في فكر تلك التنظيمات؟
في هذا المقال، سنحاول تفكيك الخطاب الديني الذي تعتمد عليه الجماعات المتطرفة في تبرير جرائمها، وتحليل الأسباب النفسية والعقائدية التي تجعل استهداف الأقليات جزءًا أساسيًا من استراتيجيتها، مع التوقف عند نماذج بارزة من سوريا والعراق، حيث دفعت هذه الأقليات أثمانًا باهظة نتيجة هذا التحريض المستمر.

A gunman carrying a machine gun, with other gunmen in the background.
أولًا: الجذور العقائدية للكراهية في الخطاب الجهادي
تستمد الجماعات الجهادية المتطرفة معظم خطابها التحريضي ضد الأقليات من تفسيرات ضيقة وحرفية لنصوص دينية، تنتقيها وتؤولها لخدمة مشروعها العنيف. تُقدَّم هذه التفسيرات ضمن سردية دينية تقوم على ثنائية “الحق والباطل”، و”الإيمان والكفر”، ما يجعل كل من لا يشاركهم تصورهم للعقيدة الإسلامية في خانة “المرتدين” أو “المشركين” أو “أعداء الله”، وهي تصنيفات تبرّر استباحة الدماء وسلب الممتلكات.
في هذا السياق، تُستهدف الطوائف العلوية والمسيحية والدروز بشكل خاص، باعتبارها تمثل نموذج “الانحراف العقائدي” الذي يجب القضاء عليه. في أدبيات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مثلًا، يُصور العلويون كطائفة “نصيرية باطنية كافرة” يجب تطهير الأرض منهم. أما المسيحيون، فإما أن يُجبروا على دفع الجزية والعيش كأهل ذمة تحت حكم المتطرفين، أو يُخيروا بين الإسلام أو القتل.
ويُلاحظ أن هذا الخطاب لا يولد في فراغ، بل يتغذى على منظومات فقهية مأزومة تم توارثها عبر قرون دون مراجعة نقدية. يستخدم المتطرفون نصوصًا من التراث الفقهي في سياقات معاصرة معقدة، دون النظر إلى اختلاف الأزمنة أو تبدل الظروف، وهو ما يحوّل الدين إلى أداة قتل وإقصاء بدلًا من أن يكون مصدر رحمة وعدالة.
ثانيًا: استهداف الأقليات كأداة استراتيجية للهيمنة والسيطرة
لم يكن استهداف الأقليات في الخطاب والممارسة الجهادية مجرد نتاج لعقيدة دينية متطرفة فحسب، بل كان أيضًا أداة سياسية فعالة تستخدمها الجماعات المسلحة لتعزيز سلطتها، وتوسيع نفوذها، وتفكيك البنى الاجتماعية للدول التي تتواجد فيها.
في مناطق النزاع مثل سوريا والعراق، تمثل الأقليات الدينية والطائفية عنصرًا مهمًا من نسيج الدولة الوطني، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمؤسسات مدنية وعسكرية واقتصادية مركزية. وبالتالي، فإن ضرب هذه الأقليات لا يهدف فقط إلى تصفيتها دينيًا، بل أيضًا إلى زعزعة استقرار المجتمعات وإعادة تشكيلها بما يتماشى مع طموحات الجماعات المتطرفة في بناء “دولة نقية عقائديًا”.
كما أن استهداف الأقليات يُستخدم كوسيلة لتغذية الصراع الطائفي، مما يسمح للجماعات الجهادية بتقديم نفسها كحامية لأهل السنة في مواجهة “أنظمة كافرة” أو “مليشيات طائفية”، بحسب توصيفهم. وهذا ما شاهدناه في مناطق مثل الموصل وسنجار، حيث ارتكب تنظيم داعش مجازر مروعة ضد الإيزيديين والمسيحيين والشيعة، بهدف استعراض القوة من جهة، وفرض هيمنة دينية من جهة أخرى.
بالتالي، يصبح العنف الطائفي استراتيجية متعمدة، وليس عرضًا جانبيًا للحرب. هو تكتيك محوري لبسط النفوذ، تمزيق النسيج الاجتماعي، وإعادة إنتاج الصراع بما يخدم مصالح الجماعات المسلحة، حتى لو أدى ذلك إلى جرائم إبادة جماعية أو تهجير قسري طويل الأمد.
ثالثًا: الإعلام الديني كمنصة لتحريض واسع وممنهج
تلعب المنابر الإعلامية والدعوية المتطرفة دورًا محوريًا في تسويق الكراهية ضد الأقليات وتبرير العنف بحقهم. فمن خلال الخطب المصوّرة، المقاطع المنتشرة على وسائل التواصل، والنشرات العقائدية، يتم ضخ خطاب يروّج لفكرة أن الأقليات هم “أعداء الداخل” الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين من داخل المجتمعات.
تعتمد هذه المواد على لغة مشحونة بالعاطفة الدينية، وتستدعي سرديات تاريخية مليئة بالصراعات الطائفية، لتصوير العلويين مثلًا كـ”خونة” أو “عملاء للغرب”، أو لتقديم المسيحيين كرموز “للاستعمار الصليبي الحديث”. يتم ذلك عبر أدوات دعائية محنّكة، تُظهر هذه الجماعات كضحية مؤامرة كبرى، وتدفع بالمستمع أو المشاهد إلى الشعور بـ”الواجب الجهادي” تجاه من يُصنفون على أنهم خصوم عقائديون.
اللافت أن هذه الرسائل لا تقتصر على المنصات التابعة للتنظيمات الجهادية فحسب، بل تتسرب أيضًا إلى بعض المساجد غير الرسمية أو قنوات تبث من خارج الدول المستقرة، ما يجعلها تصل إلى جمهور واسع من الشباب القابل للتأثر بالمظلومية المزعومة والبطولات الوهمية.
إن خطورة هذا الإعلام تكمن في قدرته على تطبيع مشاعر الحقد والعداء، وتقديمها في عباءة دينية مبررة، وهو ما يشكل تمهيدًا نفسيًا وسلوكيًا للانخراط في أعمال عنف أو تأييدها، حتى من قبل من لا يحملون السلاح فعليًا.

A group of masked armed terrorists.
رابعًا: الآثار الإنسانية والاجتماعية لاستهداف الأقليات
إن استهداف الأقليات من قبل الجماعات الجهادية لا يقتصر على الجانب الخطابي أو الرمزي، بل يُترجم إلى مآسٍ إنسانية عميقة وواسعة النطاق. القتل الجماعي، والتهجير القسري، والاختطاف، والاعتداءات الجنسية، وتدمير الأماكن المقدسة، كلها أدوات تُستخدم لإرهاب هذه الفئات واقتلاعها من جذورها.
في سوريا مثلًا، تعرضت قرى علوية لهجمات منظمة من فصائل متطرفة في عدة مناطق، تم خلالها ارتكاب مجازر بحق مدنيين فقط لكونهم ينتمون إلى طائفة مختلفة. وفي العراق، كانت الفظائع المرتكبة بحق المسيحيين والإيزيديين على يد تنظيم داعش دليلاً صريحًا على سياسة تطهير ممنهجة تهدف إلى محو هذه المكونات من الخارطة السكانية.
تؤدي هذه الجرائم إلى تفكك النسيج الاجتماعي، حيث يعيش الناجون في حالة دائمة من الخوف وانعدام الثقة، حتى بعد هزيمة التنظيمات المسلحة ميدانيًا. المجتمعات المحلية تفقد توازنها، وتدخل في دوامة من الصدمات النفسية والاقتصادية يصعب الخروج منها لعقود.
كما أن هذه الممارسات تترك آثارًا عميقة على الهوية الجماعية للأقليات، وتدفع بالكثير منهم إلى الهجرة القسرية أو الانكفاء على الذات، مما يهدد التنوع الثقافي والديني في المنطقة ويغذي خطابًا مضادًا من الكراهية والانتقام، قد يولّد أجيالًا جديدة من التطرف المضاد.
خامسًا: سبل المواجهة والتوصيات العملية
لمواجهة الخطاب الديني المحرّض على الكراهية، لا يكفي الاعتماد على الحلول الأمنية وحدها. بل لا بد من تبني مقاربة شاملة تتضمن أبعادًا فكرية وثقافية واجتماعية وإعلامية، تتصدى لجذور المشكلة بدل الاكتفاء بعلاج أعراضها.
أولًا، يجب تفكيك الخطاب الديني المتطرف عبر دعم أصوات دينية معتدلة تمتلك مصداقية وتأثيرًا داخل مجتمعاتها. هذه الأصوات قادرة على إعادة تفسير النصوص التي يستند إليها المتطرفون، وفضح التلاعب بها من أجل التحريض أو التكفير أو تبرير العنف.
ثانيًا، من المهم مراقبة المنصات الإعلامية والدعوية التي تنشر التحريض، خصوصًا تلك العابرة للحدود والتي تبث من خارج الرقابة المحلية. الرقابة يجب أن تكون قانونية ودقيقة، دون أن تتحول إلى قمع للرأي أو التضييق على الحريات، بل تركز على الخطاب العنيف والمحرّض تحديدًا.
ثالثًا، يجب إشراك مؤسسات التعليم والإعلام ومنظمات المجتمع المدني في بناء خطاب بديل يعزز قيم التعدد والتعايش، ويكشف بالأدلة والوقائع كيف تقود الكراهية إلى الكارثة، ليس فقط للأقليات، بل لكل المجتمع.
وأخيرًا، لا بد من الاعتراف بأن خطاب الكراهية هو تهديد مباشر للاستقرار الإنساني والاجتماعي، ولا يقل خطورة عن السلاح التقليدي. لذلك فإن التصدي له يجب أن يكون أولوية استراتيجية لكل دولة ومجتمع يسعى إلى السلام والعدالة والتنوع.
مراجع
- Bergen, P. (2016). United States of Jihad: The Rise of America’s Homegrown Terrorists. Crown Publishing Group.
- يناقش هذا الكتاب كيفية نشوء التطرف في المجتمع الأمريكي، وتأثير الأيديولوجيا الجهادية على الأقليات والمجتمعات المختلفة.
- Liu, S. (2018). Islamic State and the Threat of Global Jihadism. Routledge.
- دراسة حول كيفية استخدام الجماعات المتطرفة الخطاب الديني لتحقيق أهداف سياسية، بما في ذلك استهداف الأقليات في مناطق النزاع.
- Bunt, G. R. (2016). The Extremist in the Age of the Internet: Radical Islam, Jihadism, and the Politics of Cyberterrorism. MIT Press.
- يناقش الكتاب كيف يستخدم المتطرفون وسائل الإعلام الحديثة لنشر خطابهم المتطرف، بما في ذلك استهداف الأقليات.
- Gerges, F. A. (2016). ISIS: A History. Princeton University Press.
- يحلل تاريخ تنظيم داعش وكيفية استهدافه للأقليات الدينية والطائفية، بالإضافة إلى استخدامه للخطاب الديني في نشر الكراهية.
- Amnesty International (2015). The Forgotten Victims: Attacks on Religious Minorities in the Middle East.
- تقرير من منظمة العفو الدولية يستعرض الهجمات الوحشية التي تعرضت لها الأقليات الدينية في منطقة الشرق الأوسط على يد الجماعات المتطرفة مثل داعش.
- Sunnat, T. (2019). Radicalization and Religious Extremism: The Impact on Society and Minority Groups. Journal of Extremist Studies, 12(2), 45-68.
- دراسة أكاديمية تركز على تأثير التطرف الديني على المجتمعات والأقليات الدينية، ودور الخطاب الديني في هذا التحريض.
- European Union Agency for Fundamental Rights (2018). Hate Crime in the EU: A Threat to Religious Minorities.
- تقرير من الاتحاد الأوروبي يتناول التهديدات التي يواجهها الأقليات الدينية في أوروبا بسبب الخطاب الديني المتطرف، ويستعرض الوقائع والإحصائيات.
- Pew Research Center (2017). The Future of World Religions: Population Growth Projections, 2010-2050.
- دراسة تحليلية تسلط الضوء على التغيرات السكانية للأديان في العالم وتأثير ذلك على الأقليات الدينية في الدول الغربية.